سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم

Wednesday 18 March 2015

أحكام أوراق النقود والعملات


أحكام أوراق النقود والعملات

سألني بعض الإخوة عدة أسئلة فقهية كان بعضها شديد الصعوبة ، ومكمن الصعوبة في أي سؤال يكون عادة في شدة الإختلاف بين العلماء على الإجابة الوافية الشافية له ، هنا مكمن الصعوبة في اختيار أو تفضيل رأي على آخر . الشاهد أنني وجدت بحثاً معتبراً لفضيلة القاضي محمد تقي العثماني وسأورده بدون أي تصرف من جانبي ، فمن أنا حتى أغير من كلمات هذا الشيخ الجليل ..

إليكم أحكام أوراق النقود والعملات ... لفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
التخريج الفقهي للأوراق النقدية :
قبل أن نخوض في أحكام الأوراق النقدية ( البنكنوت ) بجزئياتها وتفاصيلها يجب أن نعرف حقيقة هذه الأوراق، هل هي وثائق مالية؟ أو أثمان عرفية؟
فمن جعلها وثائق مالية اعتبرها سندات في ذمة مصدرها، فليست هذه الأوراق – حسب هذا الرأي – أثمانًا ولا أموالاً، وإنما هي عبارة عن وثيقة كتبها المديون، ليتسنى للدائن القبض على دينه إذا أراد، فكل من يدفع إلى غيره ورقًا من هذه الأوراق، فإنه لا يدفع إليه مالاً، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر ذلك الورق كوثيقة، فتجري عليه أحكام الحوالة الفقهية، فيجوز دفع هذه الأوراق قضاء لحق الآخر، حيث تجوز الحوالة فقط، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلاً؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه الأوراق ليس قبضًا على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، فبطلت هذه المعاملة شرعًا.
__________

وكذلك لو دفع غني هذه الأوراق إلى فقير لأداء الزكاة الواجبة عليه، فإن الزكاة لا تتأدى حتى يقبض الفقير على غطائه أو يشتري بها عروضًا ، ولو ضاعت هذه الأوراق عند الفقير قبل أن يستمتع بها، لم تفرغ ذمة الغني الذي دفها من الزكاة الواجبة عليه.
ولكن هناك رأي آخر، وذلك أن هذه الأوراق قد أصبحت اليوم أثمانًا عرفية بنفسها، فدفعها دفع للمال أو للثمن، وليس حوالة للدين، فتتأدى بأدائها الزكاة، ويجوز شراء الذهب والفضة بها.
فيجب قبل الدخول في أحكام الأوراق النقدية والعملات المختلفة، أن نبت في أحد الرأيين في التخريج الفقهي لهذه الأوراق.
وإني بعد دراسة هذا الموضوع في كتب الفقه والاقتصاد، ممن يميل إلى الرأي الثاني، وهو أن هذه الأوراق أثمان عرفية، وليست حوالة.
وبما أن معرفة حقيقة هذه الأوراق تحتاج إلى معرفة تطور النظام النقدي في العالم ، نريد أن نلم في البداية بشيء من خلاصة هذا التطور.
__________

تطور النظام النقدي في العالم :
من المعروف أن الناس في بداية الحياة البشرية كانوا يتبادلون الأشياء عن طريق المقايضة
Barter ، ولكن هذا الطريق كان فيه من مناقص تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان.
فراج بعد ذلك نظام آخر يسمى "نظام النقود السلعية" (
Commodity money System) ، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية والملح والجلود وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى ، فلما كثر العمران وازدادت الحاجات وكثرت المبادلات، شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، وتتوفر ثقة الناس به.
ففي المرحلة الثالثة بدأ الناس في استعمال الذهب والفضة كأثمان في المبادلات؛ لقيمتها الذاتية في صنع الحلي والأواني، ولسهولة حملها وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارا للقيمة يعتمد عليها الناس في جميع البلاد والأقطار. وإن هذا النظام النقدي يسمى "نظام النقود المعدنية (
Metalic Money System) ، وقد مرت عليه تطورات كثيرة نستطيع أن نلخصها كما يلي :
__________

1- ففي البداية استعمل الناس الذهب والفضة كسلع نقدية في صورة قطع متباينة الحجم والوزن والنقاء، سواء كانت تبرا أو مصوغة في صورة الحلي أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بهما يتم بالوزن.
2- ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها وقابليتها للتداول. وكانت قيمة القطع الاسمية (
Face Value) مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة (Gold or Silver Content) ، وإن قيمة الذهب المسبوك بهذا الشكل كانت مساوية لقيمة التبر إذا كان وزنها واحدًا، وإن هذا النظام يسمى "نظام قاعدة التبر" أو "نظام قاعدة الورق (Gold Specie Standard).
ويقال : إن أول من روج هذا النظام هم الصينيون في القرن السابع قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
وكان المتعاملون في هذا النظام أحرارًا في التعامل بالذهب تبرا أو مسبوكًا أو مسكوكًا، وفي استيراده وإصداره خارج البلاد. وكانت الدولة تلزم بسك كل ما يرغب سكه من قبل المواطنين، فيأتي إليها الناس بتبر أو ذهب مصوغ، فتتولى الدولة ضربهما سكة، وردهما إلى مالكهما، وكذلك يأتي بعضهم بذهب مسكوك ويريدون تذويبه، فتتولى الدولة ذلك أيضًا، وترد إليهم الذهب بعد تذويبه تبرا.
3- اختار بعض الدول كلا المعدنين وليس معدنًا واحدًا فحسب كقاعدة نقدية في وقت واحد. وقررت قيمتهما كعيار لمبادلة أحدهما بالآخر، ويستعمل الذهب لقطع النقود الكبيرة، والفضة لقطع النقود الصغيرة، وإن هذا النظام يسمى "نظام المعدن الثنائي"
(
Bi metalism).
ولكن هذا النظام أحدث مشاكل أخرى؛ وذلك لأن نسبة القيمة بين قطع الذهب والفضة كانت تختلف بين بلد وآخر، فتحث الناس على المتاجرة بالعملة، فإن كانت القطعة الواحدة من الذهب تقوم بخمس عشرة قطعة من الفضة في أمريكا مثلاً، فإنها في نفس الوقت تقوم في أوروبا بخمس عشرة ونصف. وهذا يجعل تجار أمريكا يقتنون الذهب ويصدرونها إلى أوروبا؛ ليكسبوا بذلك كمية أكثر من الفضة، ويستوردونها إلى أمريكا؛ ليحولوها إلى الذهب، ثم يصدرون الذهب مرة أخرى، وهكذا. وصارت نتيجة هذه المتاجرة أن ذهب أمريكا مازال ينتقل إلى أوروبا، وأن القطع الفضية أخرجت القطع الذهبية من البلاد، ولما غيرت أمريكا النسبة في عام 1834 م فقومت قطعة الذهب بست عشرة قطعة من الفضة ، حدث العكس وأقصت القطعُ الذهبية قطعَ الفضة.
__________

4- ثم إن القطع النقدية، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، وكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فجعلوا يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة والصيارفة، وكان هؤلاء الصاغة والصيارفة عندما يقبلون هذه الودائع يسلمون إلى المودعين أوراقًا كوثائق أو إيصالات (Receipts) لتلك الودائع، ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البياعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا، يسلم إلى البائع ورقًا من هذه الإيصالات. وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها.
فهذه هي بداية الأوراق النقدية، ولكنها في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم الناس قبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها.
5- لما كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى " البنكنوت " ويقال : إن بنك إستاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية.
__________

وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزم بأن لا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب. وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب، ومن هنا يسمى هذا النظام "قاعدة سبيكة الذهب" (Gold bullion Standard).
6- لما ازداد شيوع "البنكنوت" جعلتها الدول ثمنًا قانونيًا (
Legal Tender) في سنة 1833م ، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، كما يلزمه قبول النقود المعدنية، ثم منعت البنوك التجارية أيضًا من إصدارها، واقتصر إصدارها على البنوك الرئيسة الحكومية فقط.
7- ثم واجهت الحكومات مشاكل تمويل مشاريعها في السلع والحرب مع قلة ريعها، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية، تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم؛ لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المائة في المائة إلى نسبة أدنى بكثير؛ وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وبعبارة أخرى قد راجعت في السوق أوراق نقدية لم تكن مدعومة بالذهب ولكن التجار قبلوها، لثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده. وإن هذه الأوراق النقدية تسمى "نقود الثقة" (
Fiduciary Money).
__________

ومن جهة أخرى، اضطرت الدول التي لم تزل تتعامل بالنقود المعدنية إلى تقليل كمية المعدن، أو تنقيص جودته في كل قطعة، بحيث أصبحت قيمتها الاسمية (Face Value) أعلى بكثير من قيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة، (Intrinsic Value) ، وإن مثل هذه النقود تسمى "نقودًا رمزية" (Token Money) بحيث يرمز أصلها المعدني إلى قيمتها الاسمية التي تمثل قيمتها الحقيقية السابقة.
8- وإن تزايد "نقود الثقة" قد تدرج إلى حد أن الأوراق بلغت إلى مقدار ما يساوي أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، حتى خشيت الحكومات أن مقدار الذهب الموجود لا يفي بطلبات تحويل الأوراق إلى الذهب، ووقع ذلك فعلاً في بعض البلاد، حيث إن بعض البنوك لم تستطع تلبية بعض الطلبات في بعض الأحيان.
وحينئذ شرعت الدول تنفذ شروطًا قاسية على الذين يريدون تحويل أوراقهم إلى الذهب، وقد عطلت إنكلترا هذا التحويل بتاتًا بعد حرب 1914م، ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925م، ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله، لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه، بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني تنفعهم في متاجراتهم الأهلية ما تنفع الأوراق المعدنية.
__________

9- ثم في سنة 1931م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لمن يطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت على الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم. ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلاً أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى انكلترا، فإن إنكلترا كانت ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب. وإن هذا النظام يسمى "قاعدة التعامل بالذهب" (Gold Exchange Standard).
10- وقد ظل العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب للدول الأخرى أيضًا ، وذلك للخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1971م وبهذا قد قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وفي سنة 1974 م اختار "الصندوق المالي العالمي " (
International Monetary Fund) فكرة " حقوق السحب الخاصة " (Special Drawing Rights) كبديل لاحتياطي الذهب. وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جرامًا من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وإن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب.
__________

وهكذا أصبحت الذهب خارجًا عن نطاق النقود بتاتًا، وأصبحت الأوراق النقدية الرمزية تحتل مكانه من كل ناحية. وأن الأوراق النقدية لا تمثل اليوم ذهبًا ولا فضة، وإنما تمثل قوة شراء فرضية. وبما أن هذا النظام لم ترس قواعده بعد، كنظام أبدي خالد، وهنالك أصوات في كل بلد، للعودة إلى جعل الذهب كأساس للنظام المالي، حتى وللعودة إلى "قاعدة سبائك الذهب" فإن الدول لا تزعم أنفسها مستغنية عن الذهب إطلاقًا، بل تجتهد للإكثار من رصائدها الذهبية كأوثق احتياطي يفيدها في انقلابات الظروف المتغيرة، ولكن هذا الرصيد الذهبي، مهما عظم مقداره، احتياطي مجرد، ليس له علاقة رسمية بالنقود الرائجة في شكل الأوراق، أو في شكل العملة المعدنية الرمزية.
فهذه هي خلاصة تطورات النظام النقدي في العالم (1)
__________
(1) إن هذه الخلاصة لتاريخ النقود وتطوراتها مستمدة من الكتب الآتية : 1-
An outline of Money, by Geoffrey Growther. 2- Money And Man, by Elgin Groseclose, Ivth. Ed. University of Okiahoma Press, Norman 197. 3- Modern Economic Theory, by K.K. Dewett New Delhi, 4- Encyclopaedia Britannica Banking and Credit Money Currency. 5- حكم التعامل في الذهب والفضة، للدكتور محمد هاشم عوض

--------------

. وإن هذه الدراسة تدل على أن الأوراق النقدية لم تكن قائمة على طور واحد في حقيقتها ومكانتها القانونية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى.
فلا شك أنها كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، ولذلك أفتى كثير من العلماء بأنها سندات ديون وليست أموالاً ولا أثمانًا، يقول العلامة السيد أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتاب "بهجة ا لمشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق" :
" ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة " بنك نوت " لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص لاروس، وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن، في تعريف أوراق البنك، حيث قال : ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها" . اهـ . " فقوله : "قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها" لم يجعل شكًا في أنها سندات ديون" ، ولا عبرة بما توهمه عبارته "التعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية" ؛ لأن معنى تلك العبارة أن الناس يأخذونها بدل العملة، ولكن مع ملاحظة أن قيمتها تدفع لحاملها، وأنها مضمونة بدفع قيمتها، وهذا صريح في أن تلك الأوراق هي سندات ديون" (1) .
__________
(1) هذه العبارة مأخوذة من "بلوغ الأماني، شرح الفتح الرباني، للساعاتي رحمه الله : 8/248.

--------------

وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق بكون هذه الأوراق وثائق دين، فلا تتأدى بأدائها الزكاة، حتى يصرفها الفقير، ولا يجوز شراء الذهب والفضة بها (1) .
ولكن كان هناك في الوقت نفسه ثلة من العلماء والفقهاء، يعتبرون هذه الأوراق أموالاً، كأثمان عرفية. وقد أشبع الكلام على هذه المسألة العلامة أحمد الساعاتي رحمه الله، صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، فقال في كتاب الزكاة من كتابه المذكور :
"فالذي أراه حقًا، وأدين الله عليه: أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تمامًا؛ لأن مالكه يمكن صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي، ومكث عنده حولا كاملاً وجبت عليه زكاته ..." إلخ (2) .
وبعين هذا الرأي كان يرى بعض علماء الهند، مثل مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله، صاحب "عطر الهداية" و "خلاصة التفاسير" وتلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله، صاحب المؤلفات المعروفة في العلوم الإسلامية. وقد شرح ابنه المفتي سعيد أحمد اللكنوي رحمه الله رأيه في آخر كتابه "عطر الهداية" ، وذكر أن الإِمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله كان يوافقه في هذه المسألة.
__________
(1) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله : 2/5 والمجلد الثالث.
(2) شرح الفتح الرباني، آخر باب زكاة الذهب والفضة : 8/251.

--------------

وخلاصة قوله : أن أوراق العملة لها جهتان : الأولى : أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق ، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانًا عرفية.
والجهة الثانية : أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى.
ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقًا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفًا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانًا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها.
وأما هذه الأوراق فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانًا عرفية في نظر الحكومة ، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر.
فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانًا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة. (1) .
رأينا في المسألة :
ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإنى أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات.
__________
(1) راجع "عطر الهداية" للشيخ اللكنوي 218-227 طبع ديو بند الهند .

--------------

فلا شك أنها كانت في بداية أمرها سندات لديوان، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية :
"أن البنكنوت ظهر في العالم قبل الشيكات المصرفية ، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذا الورق تنتقل إلى رجل آخر بتسليمه إليه، فيصير حامله دائنًا للبنك بطريقة تلقائية، ولهذا صار أداء الحقوق المالية بهذه الأوراق كأداءها بالنقود، وإن أداء المبالغ الكثيرة بالنقود المسكوكة عسيرة جدًا، فإنها تحتاج إلى عد ونقد، وربما يحتاج نقلها وحملها إلى تكاليف معتدة بها، باستعمال هذه الأوراق قد قلل من مشقة العد، وأذهب المشاق الأخرى رأسا" (1) .
ولكننا رأينا في تطورات هذه النقود أنها لم تبق على هذه الحالة في الأزمان الآتية، إنها كانت في بداية أمرها إيصالات مكتوبة شخصيًا من قبل بعض الصاغة والصيارفة، دون أن تكون لها صورة رسمية، ولا جهة واحدة تصدرها، ولم يكن أحد يجبر على قبولها عند اقتضاء حقه. ثم لما ازداد شيوعها جعلتها الحكومات عملة قانونية
Legal Tender ومنعت البنوك الشخصية في إصدارها. وحينئذ اختلفت حقيقتها عن الوثائق المالية الأخرى في جهات تالية :
__________
(1)
Encyclopadia Britannica 1950, V. 3p. 44 Banking And Credit

--------------

1- أنها صارت عملة قانونية، وجبر الناس بقبولها كالأثمان العرفية الأخرى، في حين أن الوثائق المالية الأخرى لا يجبر أحد على قبولها في اقتضاء دينه، كالشيكات المصرفية مع أنها قد عم التعامل بها أيضًا.
2- أنها صارت عملية قانونية غير محدودة (
Unlimited Legal Tender) في حين أن النقود المعدنية الرمزية عملة قانونية محدودة (Limited Legal Tender).
فيمكن قضاء الدين بالأوراق النقدية، مهما عظم مقدار الدين، ولا يستطيع الدائن أن يرفض قبول شيء منها، بخلاف النقود المعدنية الرمزية، فإن الدائن يستطيع أن يرفضها في اقتضاء مبلغ كبير، فهذا يدل على أن أوراق العملة هذه قد فاقت العملة المعدنية الرمزية بكثير، في شيوع التعامل بها، واعتماد الناس عليها، وصفتها القانونية.
3- أن سند الدين يستطيع أن يصدره كل أحد، وليس هناك أي مانع قانوني ولا شرعي، أن يكتب مديون وثيقة لدائنه، ولا مانع من أن يستعملها ذلك الدائن في أداء دينه إلى دائن آخر، وهكذا، ولكن الأوراق النقدية لا تصدر إلا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة الرسمية، كما هو شأن النقود المعدنية.
4- أن هذه الأوراق يطلق عليها كلمة "النقود"، "والأثمان"، "والعملة" في كل من العرف والقانون في جميع البلاد والأقطار، في حين أن هذه الكلمات لا تطلق على شيء من الوثائق الأخرى.
__________

5- أنها يتعامل بها الناس بنفس الاعتماد الذي يتعاملون به في النقود المعدنية الرمزية، ولا يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدين، ولا يوجد اليوم أحد يطمع فيما وراءها من ذهب أو فضة أو عملة مسكوكة أخرى.
6- قد سبق في بيان تطورات هذه الأوراق أنها لم يبق اليوم وراءها شيء من الذهب والفضة فعلاً، ولا يمكن تحويلها إلى الذهب، حتى في المداولات الدولية. يقول جيوفر كزاؤتهر :
The Promise to Pay Which appears on their face is now utterly meaningless. Not even in amounts of 1.700 can notes now be converted into gold. The note is no more than a piece of paper, of no intrinisie value whatever and if it were presented for redemption, the Bank of England could honour its Promise to pay one Pound only by giving Silver coins or another note but it is money throughtout the British Isles (1) .
" إن وعد الأداء الذي يرى مكتوبًا على وجه الأوراق النقدية صار الآن لا معنى له إطلاقًا. لا ورق يمكن تحويله إلى الذهب الآن، حتى بمقدار ألف وسبعمائة جنيه. الورق النقدي الآن ليست إلا قطعة من الكاغد، ليس لها قيمة ذاتية، وأنها لو قدمت إلى البنك الرئيسي البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية، أو ورق نقدي آخر. ولكنه يعتبر في سائر الجزر البريطانية.
__________
(1)
Geoffrey Grpwther : An Outline of money p16

--------------

وحاصل ذلك أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر اليوم إلا عن ضمان الحكومة لحامله بالحفاظ على قيمة الورق الاسمية (Face Value) وإن قيمته الاسمية عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء ، ولذلك لا يلتزم البنك بأداء الذهب أو الفضة أو العملة المعدنية الأخرى، بل ربما يفي بوعده بإبدال ذلك الورق بورق آخر يساويه في قيمته الاسمية، فليس ذلك أداء الدين، وإنما هو إبدال الثمن بثمن آخر، قد التزم به البنك الرئيسي، لا لأن الورق ليس ثمنًا رمزيًا، بل للحفاظ على ثقة الناس بهذا الثمن الرمزي.
فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثمانًا رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة " الفلوس النافقة " فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس، دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة، حتى لا توجد العملة المعدنية اليوم – ولو رمزية – إلا نزرًا قليلاً، فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع بالكالئ، ومنع اشتراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام المتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة لعملية أثر، ولا يسمع لها خبر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________

وبعدما ثبت كون هذه الأوراق في حكم الفلوس، ننتقل إلى الأحكام المتعلقة بها، والله سبحانه المستعان.
1- الزكاة والأوراق المالية :
تجب الزكاة على الأوراق النقدية بالإجماع ، وليس على قول من يقول بوجوب الزكاة على الدين فقط؛ لأنها ليست سندات دين، وإنما هي في حكم الفلوس النافقة ، والفلوس النافقة في حق الزكاة كعروض التجارة، تجب عليها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة.
وكذلك يجوز أداء الأوراق النقدية إلى الفقير زكاة، وتتأدي بها الزكاة فور ما يستلمها الفقر، دون انتظار أن يصرفها، أو يحولها إلى عملة معدنية، كما تتأدي الزكاة بأداء الفلوس إلى الفقير، ولا يشترط لأداء الزكاة بها أن يصرفها الفقير، أو يأخذ بدلها شيئًا من الذهب أو الفضة.
2- أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق :
إن مبادلة الأوراق بالأوراق تمكن على وجهين :
الأول : المبادلة بين الأوراق الأهلية، وذلك أن تكون الأوراق في كلا الجانبين أوراق دولة واحدة.
__________

والثاني : المبادلة بين الأوراق الأجنبية، وذلك أن يكون التبادل بين عملات دول مختلفة. فلنتكلم على كلتا الجهتين على حدة :
المبادلة بين الأوراق الأهلية :
قدمنا أن النقود الورقية في حكم الفلوس سواء بسواء، فتجري على مبادلتها أحكام بيع الفلوس بعضها ببعض. فلو بيعت هذه الأوراق على التساوي، بأن تكون قيمة البدلين متساوية، فهذا جائز بالإجماع، بشرط أن يتحقق قبض أحد البدلين في المجلس قبل أن يتفرق المتبايعان، فإن تفرقا ولم يقبض أحد شيئًا، فسد العقد عند الحنفية وبعض المالكية؛ لأن الفلوس لا تتعين بالتعيين عندهم، وإنما تتعين بالقبض، فصارت دينا على كل أحد، والافتراق عن دين بدين لا يجوز (1) .
وأما بيعها على التفاضل بأن تكون قيمة أحد البدلين أكثر من الآخر، كبيع الربية بالربيتين، والريال بالريالين، والدولار بالدولارين، فتجري فيه أحكام الفلوس بالتفاضل، وفيه خلاف مشهور للفقهاء.
وذلك أن بيع الفلس بالفلسين حرام مطلقًا، وهو من الربا المحرم شرعًا عند الإمام مالك بن أنس ، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، وبه يقول الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ، إذا كان البدلان غير متعينين.
__________
(1) راجع له الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين رحمه الله : 4/184.

--------------

فأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فلأنه يعتبر الثمنية علة لتحريم التفاضل والنسيئة، سواء كانت الثمنية جوهرية، كما في الذهب والفضة، أو عرفية مصطلحة، كما في الفلوس، فلا يجوز التفاضل والنسيئة في مبادلتها بجنسها. وجاء في المدونة الكبرى للإمام مالك :
"ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ؛ لأن مالكًا قال : لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة" (1) .
وأما الحنفية فإن العلة عندهم، وإن كانت الوزن، ولا يوجد ذلك في الفلوس ولكنهم يقولون : إنها أمثال متساوية قطعًا، لاصطلاح الناس بإهدار الجودة منها، فلو بيع فلس واحد بفلسين كان أحد الفلسين خاليًا عن العوض مشروطًا في العقد، وهو الربا، وهذا مادامت ثمنيتها باقية بأن لا تتعين بالتعيين، ثم يقول محمد بن الحسن رحمه الله : إنه لا سبيل إلى إسقاط ثمنيتها ما دامت رائجة؛ لأنها صارت ثمنًا بالاصطلاح، فلا تبطل إلا باصطلاح الجميع، فليس للمتعاقدين إبطالها وتعيينها، فلا يجوز الفلس بالفلسين بحال. ويقول أبو حنيفة وأبو يوسف : إن للمتعاقدين إبطال ثمنيتها بتعينها، وحينئذ تصير عروضًا متعينة، ويجوز فيها التفاضل (2) .
__________
(1) المدونة الكبرى، للإمام مالك : 7/104.
(2) راجع لتفصيله العناية على هامش فتح القدير : 5/287.

--------------

وأما الإمام أحمد ، فعنه في هذه المسألة روايتان : الأولى : أنه يجوز الفلس بالفلسين؛ لأن علة الربا عنده الوزن، ولا يوجد في الفلوس لكونها عددية. والثانية : لا يجوز، ويجري فيها الربا؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر ابن قدامة أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالإِسطال ففيه الربا، وما لا فلا (1) .
وقياس هذا التعليل أن يجوز عنده بيع الأوراق النقدية متفاضلة؛ لأن الورق ليس موزونًا من أصله، بخلاف الفلوس المعدنية، والله سبحانه أعلم.
والمذهب الثاني للفقهاء في هذا الباب : أنه يجوز بيع الفلس بالفلسين، ويجوز التفاضل في مبادلة الفلوس بالغًا ما بلغ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأن علة الربا عنده جوهرية الثمن، فتختص بالذهب والفضة، وليست الفلوس في حكمها، فلا ربا عنده في الفلوس وإن راجت، فيجوز عنده بيع بعضها ببعض متفاضلاً (2) .
وكذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوزان الفلس بالفلسين، إذا كانا بأعيانهما، وعينهما العاقدان، لفوات ثمنيتهما حينئذ، وكونهما عروضًا محضة، كما قدمنا.
__________
(1) المغني لابن قدامة، مع الشرح الكبير : 4/128و 129، وفتاوى ابن تيمية : 29/460.
(2) راجع نهاية المحتاج، للرملي : 3/418، وتحفة المحتاج، لابن حجر، مع حاشية الشرواني : 4/279.

--------------

الرأي الراجح في هذا الباب :
كان اختلاف الفقهاء هذا في زمن يسود فيه الذهب والفضة كعيار للأثمان، وتتداول فيه النقود الذهبية والفضية بكل حرية، ولا تستعمل الفلوس إلا في مبادلات بسيطة. وأما الآن فقد فقدت النقود المعدنية من الذهب والفضة، ولا يوجد اليوم منها شيء في العالم كله، واحتلت النقود الرمزية محلها في سائر المعاملات كما بينا في بداية هذه المقالة.
فيجب الآن – فيما أرى – أن يختار قول الإمام مالك أو الإمام محمد رحمهما الله تعالى في مسألة بيع النقود الرمزية بعضها ببعض؛ وذلك لأنه لو وقع الحكم اليوم بمذهب الإمام الشافعي ، أو الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، لانفتح باب الربا على مصراعيه، وصارت كل معاملة ربوية حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض أن أراد الربا باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه.
والذي يغلب على الظن أن هؤلاء الفقهاء لو كانوا أحياء في هذا الزمان، وشاهدوا من تغير أحوال النقود ما نشاهده، لأفتوا بحرمة الفلس بالفلسين، وقد رأينا ذلك فعلاً من بعض الفقهاء المتقدمين، إذ حرم مشايخ ما وراء النهر التفاضل في العدالي والغطارفة، وهي النقود التي كان يغلب عليها الغش، ولم تكن فيها الفضة إلا بنسبة ضئيلة، وكان أصل مذهب الحنفية في مثل هذه النقود جواز التفاضل، صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، ولكن مشايخ ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل فيها، وعللوا ذلك بقولهم : أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيها ينفتح باب الربا (1) .
ثم إن قول الإمام محمد رحمة الله تعالى يبدو راجحًا من حيث الدليل أيضًا، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفرا أو حديدا، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحها على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع، ولا سيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية، لنفاد النقود الخلقية وفقدانها من العالم كله.
نعم، يمكن أن يتصور قول الشيخين في الفلوس التي يقصد اقتناؤها من حيث موادها وصنعتها، ولا يقصد التبادل بها، كما هو معتاد عند بعض الناس في عصرنا من اقتناء عملات شتى البلاد وشتى الأنواع؛ لتكون ذكرى تاريخية. ففي مثل هذه الفلوس يمكن أن يتصور ما قاله الشيخان رحمهما الله، ويبدو أن في التفاضل في مثل هذه الفلوس سعة على قولهما، وأما الفلوس التي يقصد بها التبادل دون خصوص المادة، فلا ينبغي المساهلة في أمرها، فإنها من أقوى الذرائع إلى الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) راجع الهداية مع فتح القدير باب الصرف : 5/382

--------------

فالصحيح الراجح في زماننا أن مبادلة الأوراق النقدية إنما تجوز بشرط تماثلها، ولا يجوز التفاضل فيها.
ثم التماثل ههنا لا يكون بعدد الأوراق، وإنما يكون بقيمة الأوراق الاسمية، فيجوز بيع ورق واحد قيمته الاسمية خمسون ربية بخمسة أوراق قيمة كل واحد منها عشر ربيات؛ لأن مجموع قيمة هذه الخمسة تساوي خمسين ربية، وذلك لأن المقصود من بيع هذه الأوراق ليس ذات الورق ولا وزنه أو عدده، وإنما المقصود هو القيمة التي يمثلها، فيجب التساوي في تلك القيمة، وهذا كما جعل الفقهاء الفلوس عددية، مع أن أصلها من معدن موزون، وما ذلك إلا لأن المقصود منها ليس ذواتها، وإنما المقصود هو القيمة التي تمثلها هذه الفلوس، فلو كانت قطعة منها تساوى عشرة فلوس، فإنه يباح بيعها بعشر قطعات قيمة كل منها فلس واحد، حتى عند من يحرم بيع الفلس بالفلسين؛ لأنها مساوية في القيمة، أو لأن قطعة العشرة وإن كانت واحدة في العدد، ولكنها في حكم عشر قطع، فتساوي عشر قطعات، فكذلك الأوراق النقدية لا يعتبر فيها عددها الظاهر، بل عددها الحكمي الذي يظهر من قيمتها الاسمية. والله سبحانه أعلم.
__________

--------------

مبادلة عملات الدول المختلفة :
ثم الذي يظهر أن عملة الدولة الواحدة الرمزية كلها جنس واحد، وعملات الدول المختلفة أجناس مختلفة؛ وذلك لأن العملة اليوم لا يقصد بها مادتها، وإنما هي عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء ، وأن ذلك العيار يختلف باختلاف البلاد ، كالربية في باكستان والريال في المملكة السعودية والدولار في أمريكا ، وما إلى ذلك، وأن عيار كل دولة ينبني على قائمة أسعارها، وقدر إيرادها وإصدارها، وليس هناك شيء مادي ينبئ عن نسبة ثابتة بين هذه العيارات، وإنما تختلف هذه النسبة كل يوم، بل كل ساعة، بناء على تغير الظروف الاقتصادية في شتى البلاد ، ولذلك لا يوجد بين عملات البلاد المختلفة علاقة ثابتة تجعل هذه العملات جنسًا واحدًا، بخلاف عملة الدولة الواحدة، فإن أنواعها المختلفة مرتبطة بينها بنسبة ثابتة لا تتغير، كالربية والبيسة في باكستان، بينهما نسبة الواحد والمائة، وأنها نسبة ثابتة لا تتأثر بتغير أسعار الربية. وأما الربية الباكستانية والريال السعودي، فليس بينهما نسبة ثابتة، بل إنها تتغير كل حين بتغير أسعار هذا أو ذاك.
فتبين أن عملات الدول المختلفة أجناس مختلفة، ولذلك تختلف أسماؤها وموازينها ووحداتها المنشعبة منها.
ولما كانت عملات الدول أجناسًا مختلفة جاز بيعها بالتفاضل بالإجماع ، أما عند الشافعي رحمه الله فلأنه يجوز بيع الفلس بالفلسين في عملة واحدة، ففي العملات المختلفة أولى، وهو رأي في مذهب الحنابلة كما قدمنا، وأما عند مالك رحمه الله فلأنه يجعل هذه العملات من الأموال الربوية فإذا اختلفت أجناسها جاز التفاضل، وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فلأن تحريم بيع الفلس بالفلسين مبني عندهم على كون الفلوس أمثالاً متساوية قطعًا، فيبقى عند التفاضل فضل خال عن العوض، ولكن عملات البلاد المختلفة لما كانت أجناسًا مختلفة، لم تكن أمثالاً متساوية، فلا يتصور الفضل الخالي عن العوض.
__________

فيجوز إذن أن يباع الريال السعودي مثلاً بعدد أكثر من الربيات الباكستانية.
ثم إن أسعار هذه العملات بالنسبة إلى العملات الأخرى ، ربما تعين من قبل الحكومات، فهل يجوز بيعها بأقل أو أكثر من ذلك السعر المحدد؟ والجواب عندي أن البيع بخلاف هذا السعر الرسمي لا يعتبر ربا ؛ لما قدمنا من أنها أجناس مختلفة، ولكن تجري عليه أحكام التسعير، فمن جوز التسعير في العروض، جاز عنده هذا التعسير أيضًا، ولا ينبغي مخالفة هذا السعر، إما لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجب (1) ، وإما لأن كل من يسكن دولة فإنه يلتزم قولاً أو عملاً بأنه يتبع قوانينها، وحينئذ يجب عليه اتباع أحكامها، مادامت تلك القوانين لا تجبر على معصبة دينية (2) .
بيع العملات بدون التقابض :
ثم إن هذه الأوراق النقدية، وإن كان لا يجوز فيها التفاضل، ولكن بيعها ليس بصرف، فلا يشترط فيه التقابض في مجلس العقد ، نعم يشترط قبض أحد البدلين عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الفلوس عندهم لا تتعين بالتعيين، فلو افترقا دون أن يقبض أحد البدلين، لزم الافتراق عن دين بدين (3) . وأما عند الأئمة الثلاثة فينبغي أن لا يشترط ذلك إن كان أحد البدلين متعينًا؛ لأن الأثمان تتعين بالتعيين عندهم (4) .
__________
(1) هذه القاعدة صرح بها الفقهاء، راجع مثلاً "شرح السير الكبير للسرخسي : 1/96 ورد المحتار، باب العيدين : 1/780 وباب الاستسقاء 1/792، وكتاب الحظر والإباحة : 5/407.
(2) راجع أحكام القرآن للشيخ المفتي محمد شفيع رحمة الله : 5/43.
(3) راجع الدر المختار مع رد المحتار : 4/183 و 184.
(4) راجع المغني لابن قدامة، باب الصرف : 4/169.

--------------

وهل يجوز هذا البيع نسيئة ؟ كما هو معمول به اليوم عند كثير من التجار وعامة الناس، أنهم يعطون عملة بلدهم، بشرط أن يؤدي الآخذ بدلها في شكل عملة بلد آخر بعد مدة، مثل أن يعطي زيد عمرا ألف ريال سعودي في المملكة السعودية ، بشرط أن يؤدي عمرو بدلها أربعة آلاف ربية باكستانية في باكستان .
فأما عند الحنفية فيجوز هذا البيع؛ لأن الأثمان لا يشترط فيها كونها مملوكة للعاقد عند البيع عندهم، فيصح فيها التأجيل عند اختلاف الجنس، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله : وإذا اشترى الرجل فلوسًا بدراهم ونقد الثمن، ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز ؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود. وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معًا، ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد، كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير" (1) .
فصار البيع حينئذ بيعًا بثمن مؤجل، وذلك جائز في الأجناس المختلفة، ثم يمكن تخريجه على قاعدة السلم أيضًا؛ لأن السلم في الفلوس جائز عند أكثر الفقهاء؛ لأنها عددية غير متفاوتة تنضبط بالضبط، حتى عند محمد رحمه الله أيضًا، الذي يقول بحرمة الفلس بالفلسين (2) . وكذلك يجوز السلم في كل ما لا يتفاوت من العدديات عند أحمد رحمه الله (3) .
وحينئذ يجب أن تراعي في هذا العقد شرائط السلم، على اختلاف أقوال الفقهاء فيها، وهي معروفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) مبسوط السرخسي : 14/24.
(2) راجع فتح القدير : 5/327.
(3) المغني لابن قدامة : 4/327.

******* 
مصدر الصور : فليكر
 













1 comment: