رأينا
فيما سبق أن المقايضة بأسلوب التبادل السلعي الضيق وما شابها من صعوبات كثيرة قد
مهدت لوجود أسلوب جديد في عملية التبادل السلعي على نطاق أوسع نتيجة لتطور وتوسع المجموعات
البشرية والمجتمعات والتي أصبحت تشكل تجمعات سكانية متجاورة ومستقرة بالقرب من
ضفاف الأنهار وحول الأودية في أطر عشائرية وقبلية لكل منها طبيعته الخاصة وما
يتميز به من إنتاج معين ونشاط إقتصادي يرتبط بهذا الإنتاج . ولقد أصبحت تلك
التجمعات القبلية تمثل بداية الحضارة الإنسانية بأسرها ، وباكتشاف الإنسان لموارد طبيعية
جديدة وممارسته للزراعة وتربية الحيوان والرعي عوضاً عن الصيد ، مالت تلك التجمعات
البشرية إلى الإستقرار في صورة تجمعات سكانية ، ونشأت علاقة وطيدة بين الإنسان
والأرض في تلك الحقبة ، حيث كان النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي لدى تلك
التجمعات البشرية ، وكان ذلك الإرتباط دافعاً للإنسان في استعمال وسائل وسيطة تسهل
له استغلال موارد بيئته فصنع أدوات الزراعة التي تعينه على زراعة وفلاحة أرضه
وتطورت حاجات الإنسان أكثر فاكتشف المعادن وأدرك طريقة صهرها وتشكيلها إلى الأشكال
التي تمكنه من الإستفادة من تلك المعادن في حياته.
مع تنوع السلع والخدمات التي
يحتاج إليها الإنسان فقد أصبح من الصعب عليه أن يقوم بإنتاج جميع احتياجاته بنفسه
، ومن هنا نشأت عملية التخصص داخل المجموعة البشرية ذاتها ، وقد كان ذلك بداية
تقسيم العمل في التجمعات البشرية في إطار المجتمع الواحد بما يسمح لهم بإنتاج كل
ما يحتاجون إليه من سلع وخدمات. كما كان هذا بداية مرحلة جديدة في ممارسة التبادل
التجاري حيث أصبح الفرد يقوم بإنتاج سلعة معينة في مجال تخصصه وبكمية تزيد عن
حاجته ويبادل بالفائض منها بما يحتاجه من سلع وخدمات من إنتاج الآخرين حسب تخصصهم .
يرى الماركسيون أن التبادل يتم على أساس مبادلة القيمة الإستعمالية بالقيمة
التبادلية للخيرات . فالنجار ليس بحاجة لكل الأبواب التي يينتجها بعمله كنجار ، بل
إنه بحاجة إلى خيرات وسلع من نوع آخر ، أي أن الأبواب التي يصنعها لا تمثل بالنسبة
إليه قيمة استعمالية بل قيمة تبادلية في حين أنها تمثل قيمة استعمالية عند آخرين أو
أطراف أخرى كالفلاح والراعي أو غيرهم ، لذلك يبحث الآخرون عن القيم الإستعمالية
للأشياء و يبادلونها بالقيم التبادلية للأشياء التي ينتجونها هم بأنفسهم.
في
الفكر الإسلامي ربما لا تجد هذا التحديد التفصيلي للمثال السابق ولكنك تجده ضمن
كليات عامة تخص طبائع البشر وما خلقهم الله عليه من اختلاف وتنوع بهدف إلهي هو
حاجة البشر لبعضهم البعض وبالتالي تعاملهم مع بعضهم البعض وتعارفهم (يقول الله
سبحانه في القرآن الكريم "خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا") وانتشار
السلام بينهم لأنهم في حاجة إلى بعضهم البعض وفي حاجة إلى التبادل والتعايش السلمي
فيعم السلام بين الناس والمجموعات البشرية التي يحتاج كل منها إلى الآخر ، ولو شاء
الله لخلقهم متشابهين وخلق لكل إنسان حاجاته وجعله في غنى عن من سواه من البشر ،
ولو حدث هذا لما تطورت الأمم وما تعارفت حيث لا حاجة للتعارف أو التعامل أو تبادل
السلع والمنتوجات. يقول آدم سميث (أعطيني ما أحتاجه منك ، وسأعطيك أنت ما تحتاجه
مني) ، هذا هو جوهر الموضوع وحقيقة إعمار الأرض كما يراه الإسلام ويتفق بطبيعة
الحال مع الفطرة الإنسانية ، ولا عجب أن تكون هي ذات الرؤية لدى جميع المفكرين في
العالم تقريباً. نعود إلى ما بدأناه من حديث عن التطور الذي حدث في المجموعة
البشرية وما صحبه من تطور في الإنتاج كماً ونوعاً من السلع الذي أدى إلى ضرورة
ابتكار نظام أكثر تطوراً للمبادلة لمواكبة هذا التوسع الكبير في الإنتاج .
كانت مرحلة الاستقرار البشري في تجمعات متجانسة وعلاقة
الإنسان بموارد بيئته المحيطة قد أدت إلى زيادة التخصصات بين أفراد تلك التجمعات وبدأ
استخدامهم تلقائياً لبعض الأنواع من السلع كوسيط في عمليات المبادلة للتوفيق بين حاجاتهم
كما أشير إليه سابقاً . وقد كان من شروط السلع الوسيطة أن تكون سلعة ذات منفعة
بالنسبة لجميع أفراد المجموعة الواحدة أو عدد من المجموعات المتخصصة على الأقل .
ذكرنا فيما سبق أمثلة عديدة لتلك السلع الوسيطة أو القياسية التي استخدمتها
المجموعات البشرية المختلفة كالقمح لدى المصريين ، الأصداف لدى المجموعات التي
تعيش بالمناطق الساحلية ، الفراء والجلود في المناطق الباردة ، وغيرها الكثير
الكثير من السلع التي استخدمت كسلع وسيطة أو كنقود سلعية يباع بها الإنتاج من أي
سلعة أخرى بهدف الشراء بها مرة أخرى سلعاً جديدة يكون الإنسان بحاجة لها عوضاً عن
أسلوب المقايضة القديم . لكن يبدو أن تلك النقود السلعية أو القياسية أيضاً لم تك قادرة على
الوفاء باحتياجات المجتمعات المتطورة باستمرار ، فبدأ الإنسان البحث عن بديل آخر
قياسي يتمتع بصفات أفضل من ويخلو من عيوب السلع الوسيطة الحالية بحيث تكون سلعة
معمرة لاتتلف بسرعة مع التخزين أو النقل ، ولا تفقد قيمتها بسبب التداول ، وأن
تكون سلعة قابلة للتجزئة ، ذات وحدات متجانسة ، لاتتسم بالندرة فيصعب الحصول عليها
، ولا تتسم بالوفرة المفرطة فتضيع قيمة الإنتاج ، وأن تكون قيمتها ثابتة ولاتتغير
من فترة لأخرى ، وتكون مرغوبة من الجميع بحيث تصبح مستودعاً للثروة وقوة شرائية مطلقة
في أي وقت يمكن استخدامها لشراء المنتجات الأخرى ، إلخ .. .
ربما يشعرك السرد السريع للموضوع بنوع من التسارع في
تطور النقود وظهورها بين يدي الناس ، لكن الحقيقة أن ما ذكرناه
في سطور قليلة يحكي معاناة ونضال الإنسان لآلاف السنين ، فكم ألف سنة لزمت الإنسان
ليصل إلى الصورة الأرقى للنقود؟ لقد ظل الإنسان يعيش وحيداً لا يتعامل أو يتبادل
إنتاجه مع آخرين لفترة طويلة تمتد مئات السنين ، ثم عاش فترة أطول على نظام
المقايضة لمئات سنين أخرى ، ثم مئات من السنين عاش يستخدم فيها سلعه وما ينتجه
بيديه كنوع من النقود القياسية ، وهكذا ظل
الفكر البشري لآلاف السنين مشغولاً بالبحث عن وسيط للتبادل ليتفادى فيه جميع
السلبيات التي كانت تستخدم فيها السلع في عملية التبادل ، أو ما يسمى قبلها بالمقايضة
سواء في مرحلتها الأولى ، عندما كان يتم التبادل بالسلع مقابل بعضها بعضاً دون
تميز السلع المستخدمة في التبادل ، أو في المرحلة الثانية من التبادل السلعي وهو
نوع من المقايضة أيضاً ولكن بسلع مختلفة أو سلعة قياسية . ونظراً للعيوب التي
رافقت استخدام السلع كوسيط للتبادل وعجزها عن مسايرة تطور الحياة البشرية التي
تعددت مجتمعاتها وزاد إنتاجها عن احتياجاتها ، وظلت تبحث لنفسها عن مخزن لتلك
القيمة الإنتاجية ، وكانت المجتمعات المتنوعة كلها في حاجة إلى سلعة معينة تلقى
قبولاً عاماً لاستخدامها كوسيط في تسهيل عملية المبادلة ، فقد اهتدى الإنسان إلى
المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس وكان استخدامها كوسيط للتبادل مقبولاً ومبهراً
ومرضياً لكافة المجموعات البشرية ، وانتشر التعامل بها فترة طويلة من الزمن في شكل
سبائك وقطع مسكوكة ، وكان التعامل يتم على أساس الوزن.
لكن ظهرت مشكلة جديدة أيضاً أو تحدياً جديداً لهذا
الإنسان المفكر ، فليس جميع الناس خبراء في المعدن الأصفر "الذهب" أو
غيره من المعادن ، فقد أدى اختلاف أنواع هذه المعادن واختلاف قيمتها وصعوبة تقدير
ذلك من جموع الناس إلى نشوء تحدي جديد بسبب التلاعب في عناصر مكونات كل معدن
وخصوصاً الذهب الذي تعرض كثيراً للغش ، فعدم معرفة جميع الناس للمادة الأصلية
للذهب ومعايير النقاء والوزن كان يغري المتلاعبين بالغش فيه ليخدعوا البسطاء .
وكان نتيجة لذلك وفي ظل تطور الأنظمة الاجتماعية الحديثة نوعاً ، وبعد أن حظيت تلك
المعادن بالثقة والقبول لدى الجميع ، وفي إطار نظام اجتماعي أكثر تنظيماً من
الناحية الإجتماعية والسياسية والإقتصادية
كان لزاماً على السلطات الحاكمة في كل مجموعة بشرية أو إقليم أو دولة أن تتدخل لحماية
المواطنين ولمنع التجاوزات والغش والتلاعب بثرواتهم ، نحن هنا نتحدث عن الحقبة
الأخيرة أي قبل عدة قرون.
بعد استقرار المجتمعات وتنظيمها كسلطات عامة ترعى
مصالح المواطنين ، تدخلت تلك السلطة في تنظيم استخدام المعادن الثمينة لمنع
التلاعب والغش فأصبحت السلطة في المجتمع أو الدولة هي المسئولة عن تشكيل تلك
المعادن الثمينة وإصدارها في صورة مسكوكات نقدية لكل منها وزن ومعيار معلوم للجميع
مختوم عليه من قبل تلك السلطات ، وأصبحت المسكوكات النقدية يمكن عدها بعد أن يتم
استخدامها بالوزن ، فمثلاً عدد من النقود الفضية ذات وزن معين تعادل عدداً من النقود الذهبية بوزن ومعيار محدد ، واكتسب النظام
النقدي المعدني الثقة من الجميع للتعامل به. على الرغم من أن النظام الإقتصادي قد
حقق استقراراً في ظل نظام المسكوكات النقدية وتداولها بصورة واسعة شملت التبادل
التجاري بين المجتمعات المتباعدة ، إلا أن التطور الإقتصادي المتلاحق قد أظهر بعض
الصعوبات في نظام التبادل التجاري بالمسكوكات النقدية ، ويرجع ذلك إلى التوسع في
التبادل التجاري وعقد الصفقات بين تجار الشعوب المختلفة والمتباعدة جغرافياً ،
فهناك تجار في أوروبا يريدون استيراد بضائع من الصين والهند وأفريقيا وتوجد صعوبة
كبيرة ومخاطر كثيرة في حمل ونقل الكميات الكبيرة من الأموال اللازمة لشراء تلك
البضائع ، صعوبات في حمل ونقل تلك الأموال النقدية الهائلة من بلد إلى آخر براً أو
بحراً والخوف من ضياعها أو سرقتها في الطريق ، هذا فضلاً عن أن النقود المعدنية النفيسة أصبحت تمثل قوة إقتصادية كبيرة
للدولة المالكة لها ، فقوة الدول إقتصادياً أضحت تقاس بما تملكه الدولة من معادن
نفيسة "ذهب مثلاً" ، فانتهجت الدول إلى سياسة جمع أكبر كميات ممكنة من
الذهب والمعادن الثمينة وحرصت على اكتنازها دون خروجها ، ولتجنب ذلك اهتدى الكثير
من التجار في وضع ما يملكون من مسكوكات نقدية في بيوت خاصة كانت تسمى ببيوت المال
التي تحظى بالدعم بالثقة والسمعة الطيبة والحماية ، ويحصلون في مقابل ذلك على
الصكوك التي تثبت ملكيتهم لودائعهم من المعادن ومن هذه النقطة بدأت عملية إحلال
الورق أو الصك أو السند محل الذهب أو معبراً عنه أو مثبتاً لملكيته .
وشيئاً فشيئاً أصبح التبادل التجاري يعتمد على تلك
الصكوك ، السندات الدالة على ملكية الذهب أو الأوراق المصرفية المعبرة عن الذهب أو
الحالة محله أو ما شئت من التوصيفات لهذه الحالة ، حلت تلك الأوراق محل الذهب في
إبرام الصفقات التجارية ، حيث يقوم الطرف المدين بالتوقيع على صك يؤكد فيه تنازله
عن محتوى قيمته لدائنه ويكون لهذا الدائن الحق في أن يحصل على مبلغ الصك عند تقديمه
إلى بيت المال أو أحد فروعه ، وبهذه الصكوك تم حل الإشكال الذي كان قائماً باتخاذ
المسكوكات النفيسة كوسيط مباشر للمبادلة ، وبدأت العملات الذهبية تتوارى ليحل
محلها أوراق دالة عليها أو معبرة عنها . غير أن هذه الوسيلة الجديدة أو الصكوك لا
تعتبر نقوداً في حد ذاتها بل تلعب دوراً نيابياً معبراً عن النقود المعدنية الذهبية الحقيقية المخزونة في بيت
المال ، وأصبح يطلق عليها النقود الورقية
النائبة وتدارج قبولها في التداول دون الرجوع إلى من أصدرها لسدادها نقداً من
الرصيد النقدي المعدني الذي كان يغطي قيمة جميع الصكوك المتداولة الأوراق النقدية.
نظراً لما لقيته هذه الوسيلة الحديثة من ثقة الأفراد
في الجهة التي تصدرها وقدرتها بالوفاء على دفع قيمتها ، ونظراً لما تميزت به هذه
الصكوك من تسهيل في عملية التبادل والتجارة فقد ازداد استعمالها بصورة مكثفة وأدى
ذلك إلى قيام المصارف أو بيوت المال أو البنوك بإصدار كميات كبيرة من الأوراق
النقدية أو البنكنوت التي تفوق قيمة الأرصدة النقدية الفعلية الموجودة لديها مما
أدى إلى وقوعها لاحقاً في أزمة إفلاس حينما لم تتمكن من صرف كل ما يقدم إليها من
صكوك بعملات ذهبية ولم تقدر على تغطية كل ماقدم إليها من أوراق نقدية أو بنكنوت
لدفع ما يقابلها من نقود ذهبية معدنية . وكاد ذلك أن يؤدي إلى انهيار العلاقة
الجيدة بين بيوت المال وأصحاب الودائع وقيام أزمة اقتصادية حقيقية بسبب ذلك . فكان
تدخل الدولة في تلك الفترة قد حدّ من الوقوع في الأزمة ، وأصبحت الحكومات تراقب
عمليات إصدار تلك الصكوك أو أوراق النقد أو البنكنوت وإشرافها على ذلك عن طريق بنك
مختص تابع للدولة يسمى البنك الأم أو البنك المركزي أو بنك البنوك ، يستمد سمعته
من هيبة الدولة ، مما زاد ثقة الأفراد وتقبلهم لأوراق البنكنوت التي يصدرها تلك
البنوك المركزية أو مؤسسات النقد الخاصة بالدولة.
*******
No comments:
Post a Comment